من التراث القريب
ذكريات
الكاتب: محمد البحراني
كان
أستاذنا الجندي أعني الأستاذ الدكتور علي الجندي - رحمه الله - مغرمًا بالشعر
الجاهلي، وقد تخصص فيه وكتب أطروحة تقدم بها إلى مدرسة الدراسات الشرقية
والإفريقية بجامعة لندن بعنوان ( شعر الحرب في العصر الجاهلي) ومن شدة ولعه بالشعر
الجاهلي أنه لم يدرس غيره أو يكاد، ولربما درس مادة التفسير بالإضافة إلى الشعر
الجاهلي في جامعة بيروت العربية في لبنان، ولقد حاول قسم الدراسات الأدبية في كلية
دار العلوم أن يسند إليه تدريس شيء من الأًدب العباسي فتأبى حتى سارعه ممازحًا
أستاذه عمر الدسوقي قائلاً: ستظل على الناقة طوال حياتك.
وبالعودة
إلى عمل الدكتور الجندي الأكاديمي فإنه بعد أن أعدّ أطروحته (شعر الحرب) ارتأت
اللجنة رفعها إلى دكتوراه حيث كانت القواعد المرعية لديهم تسمح بهذا الإجراء كما
أنه ترجم كتابًا عن اللغة الإنجليزية بعنوان الذوق الأدبي، وألف كتابًا في تاريخ
الأدب الجاهلي وحقّق ودرس ديواني كل من امرىء القيس وطرفة وجاء عنوان ديوان امرىء
القيس (الأمير الجاهلي الشاعر) والجدير بالذكر أن المرحوم أستاذنا الدكتور الطاهر
أحمد مكي حقق شعر امرىء القيس وأسمى كتابه (امرؤ القيس امير شعراء الجاهلية)، إلا
أنه عدل عنه بعنوان (امرؤ القيس حياته وشعره)،
ولقد ألّف الدكتور الجندي كتابين في الشعر الجاهلي وهما شرح المعلقات
والمفضليات.
وكان
رحمه الله يلقي علينا دروس الشعر الجاهلي وشيئًا من أدبه في اقتدار منقطع النظير
حتى إننا نخال حياة الجاهليين ماثلة في مختلف تمظهراتها من أيام العرب ومنافراتهم
وكأن البسوس ومواقعها رأيناها رأي عين، ما جعل محاضرة الدكتور الجندي مقصد الطلاب
جميعًا ومحل الحرص وأحاديث الطلب، التي لاتنقضي تندرًا وتفكها في رصانة العلم ومرح
التلقي، وكان الدكتور يتوقف عند رؤية طه حسين وغيره ممن توقفوا عند قضايا الشعر
الجاهلي، وقد ناقش قضية الانتحال في أسلوب هادىء واكاديمي.
وتوقف
عند نص أبي عمرو بن العلاء الذي ساقه طه حسين إذ قال: "ما لسان حمير بلساننا
ولا لغتهم بلغتنا" واستدرك الدكتور الجندي على طه حسين في أن نص أبي عمرو بن
العلاء جاء كالاتي: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم
بعربيتنا"، ولقد راجع أصول الشعر العربي القديم لسمويل مرجليوث ولخصه.
لكن
الذي نظر إلى القضية في شيء من التجديد أستاذنا الدكتور محمد أبو الأنوار في كتابه
(الأدب الجاهلي) - رحمه الله - ولقد أهدى البحث للدكتور علي الجندي، ولقد ناقش
أستاذنا أبو الأنوار القضية فيما يخص طه حسين على نحو مختلف ورصد عمل طه حسين في
قضية الانتحال قبل سفره الأول إلى فرنسا حيث إنه كتب بحثًا ونشره في إحدى المجلات
المصرية عن شعر الخنساء ونسبته إليها والحق أن القضية واضحة المعالم في التراث وعلى
الخصوص جاءت مبسوطة القول في مقدمة محمد بن سلام الجمحي الموسوم بـِ (طبقات
الشعراء)، والذي زاد عليه الشيخ محمود شاكر "فحول" فجاء بعنوان (طبقات
فحول الشعراء)، غير أن عنف طه حسين وتطرّفه اللغوي جاء فظّا منفّرًا صرف الكثير من
الباحثين عن الأخذ برؤيته.
وبالعودة
إلى أستاذنا الدكتور الجندي فإنه ظل مدافعًا عن الشعر الجاهلي بما امتلك من أدوات
معرفية تراثية ومنهجية حديثة، وأزعم أن الدكتور الجندي قد كان متمكنًا أمكن من
الدرس البلاغي واللغوي والنحوي، ما جعله قادرًا على تقديم القصيد الجاهلي على نحو آخر
من الضبط والدقة ولقد ناقش قضية الوحدة العضوية في القصيدة ورأى أن المستشرقين لم
يتنبهوا إلى ظاهرة الإيجاز بالحذف في السياق اللغوي العربي.
لقد
كانت هذه الإطلالة انطلاقًا إلى رؤية أوسع وهي أن كثيرًا من الدارسين العرب حاولوا
أن ينحوا منحًا مغتربًا في مقاربة الشعر الجاهلي وحاكموه على مستوى الآداب
الأوروبية بل أنهم حاولوا أن يعتسفوا في تقديم القصيدة الجاهلية على أنها ذات رؤية
واحدة بل حاول كمال أبو ديب أن يقدم بعض المعلقات على أساس بنيوي محض كما فعل في
معلقة امرىء القيس التي وسمها ب (الشبقية).
ومن
خلال التأمل يمكننا القول إن محاولة حصر القصيدة الجاهلية التي تكتنز بأفكار
مختلفة في ملمح دون أن تتجاوز إلى تمظهرات مختلفة هو مسار يؤدي إلى إفقار الشعر
الجاهلي، يقول الدكتور الجندي: "إن الشاعر الجاهلي كان مثقفًا وعالمًا
بالتاريخ والحياة ما جعل نظرته شاملة وثاقبة، غير أننا لسنا مغرمين عبثًا أن نقدّم
الشاعر الجاهلي على نحو من الفلسفة المنتظمة ووحدة الرؤية، ومن الممكن أن نطرح
سؤالاً وهو: (أكانت القصيدة تمثل وحدة دلالية واحدة في عصر الجاهليين؟ أكان كلام
الشاعر يفسر بعضه بعضًا؟ أكان الأرقال عند طرفة أو عنترة أو امرىء القيس وحدة
دلالية واحدة أو المطر أو الحصان أو الناقة كل تلك المقومات في حاجة إلى وقوف؟"
نحن
أمام قضية قائمة ونتساءل: "ماهو الخطاب، هل هو مجموعة من الوقائع اللغوية
المؤتلفة أم الخطاب مواقف من السياقات اللغوية؟". ومن خلال الشعر الجاهلي
يمكننا طرح سؤال آخر وهو: "التناص والإحالات في النص المعين، وما إذا كانت
الرؤية عماد النص الأوروبي قديمه وحديثه، فتكون الرؤى المتناثرة في النص هي مصدر
غنى وتعدد؟".
ولعله
من نافلة القول أن التعدد في ظواهر النص، هو الذي يجعل النص أكثر كثافة دون أن
يكون محدودًا جامدًا، وهذا التعدد يجعل النص قافزًا على الزمان والمكان أي أنه
يخترق الحدود الزمكانية، إنه نص متعالٍ وإذا كنّا نقرأ نص المتنبي كأنه وليد اليوم
في حكمته ورؤاه وكذلك نص أبي تمام من قبله ونص أبي العلاء من بعده، فليس حريًا أن
نقرأ قول الرسول (ص) على هذا النحو وزيادة وهو الذي أعطي جوامع الكلم، ويقصد هذا
المقال في مكان ما، اللفت إلى أن النص المقدس والذي جاءت استعاراته من العرف العام
- وهذا من كلام لأستاذنا الدكتور حسن طبل - إلى أن القرآن هو نص ليس يمثل في مجمله
وحدة دلالة بل هو رؤى غنية لا تحدها حدود ولايمكن تجريدها وإن القرآن الكريم فوق
التجريد أو القوننة.
غير
أن مكان الحذر هو الوقوع في دائرة الوهم واللجوء إلى دائرة المعجم لا اللغة، كما
فعل المرحوم الدكتور نصر حامد أبو زيد، لقد عمل الدكتور نصر حامد أبو زيد على تتبع
كثير مما كُتِب حول القرآن في التراث، في شكل جاد وقرأ ما كُتب في اللاهوت
والتأويل حديثًا وفِي اعتقادي أن بحثيه، (أقصد مفهوم النص والمجاز عند المعتزلة)
كانا شاهدين على هذا التتبع، وقد أسس فرضيته المعرفية على النص كان هذا منطلق بحثه
في كتابه مفهوم النص فهو رأى أنه إذا كانت الإغريق قد امتلكت الفلسفة فإن المسلمين
قد امتلكوا النص.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.