وفي الاستقلال...
رجال لم ينصفهم التاريخ
الكاتب: فاطمة سلامة
ما
إن نذكر كلمة استقلال، حتى تنهال الصور الذهنية على مخيلتنا. تمر صورة العلم
اللبناني سريعاً، يصاحبها النشيد الوطني، ومعهم نستذكر شخصيات، قرأنا عنها في كتب
التاريخ، فطبعت ذاكرتنا كرجالات صنعت استقلال لبنان عام 1943. بدءاً من رياض الصلح
وكميل شمعون وحبيب أبي شهلا مروراً بمجيد ارسلان وعادل عسيران وسليم تقلا، وصولاً
إلى عبد الحميد كرامي وصبري حمادة وصائب سلام. إلا أنّ حكاية الاستقلال التي
رافقتنا كلازمة أساسية في صلب المنهج التعليمي والتي لم تنته فصولها عام 1943، لم
تقتصر على الرجالات التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، وفق ما يروي مسنون عايشوا تلك
الحقبة. أولئك يتحدّثون عن أبطال كانت لهم وقفة مشرّفة في قصّة الاستقلال؛ لكن
وللأسف لم تعطهم كتب التاريخ حقهم ولم تنصفهم، ليكونوا منسيين من قصص الفداء والتضحية.
تماماً كابن بلدة إيعات البقاعية الدركي حسن موسى عبد الساتر، الملقّب
بـ"شهيد علم الإستقلال"، فمن هي هذه الشخصية؟، وما علاقتها بالمحطة
التاريخية من عمر لبنان؟.
تنقل
بعض الروايات التي "أرشفت" قصّة عبدالساتر مع الاستقلال حدث استشهاد
"البطل المغوار" كما يسمونه. المحامي المرحوم مصطفى عبد الساتر يروي في
كتابه "أيام وقضيّة" وقفة العز المشرفة التي طبعت سيرة "شهيد علم
الاستقلال". ففي نيسان/ابريل عام 1944 حيث الاستقلال كان "طازجاً"،
وكانت السلطات الفرنسية تسعى جاهدةً للثأر من الاستقلال الذي تم بفضل دماء
الشهداء. في تلك الأيام، كان يوسف كرم قد فاز في انتخابات فرعية لمقعد في المجلس
النيابي، وحدّد موعد أول جلسة للبرلمان بعد الانتخابات بتاريخ 27 نيسان/ابريل
1944. الدركي عبد الساتر كان مكلّفاً آنذاك بمهمة في مدينة طرابلس، إثر أحداث
حصلت. وكانت طريق عودته من عاصمة الشمال إلى بعلبك تمرّ عبر مدينة حمص، في وقت كان
زملاؤه يتحضرون للانتقال إلى مهمة حفظ الأمن في المجلس النيابي، "فما كان منه
إلا أن التحق بهم، رغم رفض الضابط المسؤول عنه لكونه كان مكلفاً بمهمة
طرابلس". وصل موكب يوسف كرم الضخم، آتياً من زغرتا إلى ساحة البرج.
وهنا
يروي عبدالساتر في كتابه أن التظاهرة المسلحة الضخمة اجتازت كما كان مخططا لها من
زغرتا الى بيروت دون أية محاولة لاعتراضها، وبعد أن كانت قد أصبحت بحراً هائجاً
تدفقت في بيروت على ساحة النجمة تهتف لفرنسا وليوسف كرم، أصبح البرلمان والنفر
القليل من رجال الأمن الذين يحرسونه، جزيرة صغيرة وسط بحر من الرجال الأشداء
المسلحين. انطلقت الشرارة عندما شك الزغرتاويون العلم الفرنسي على باب البرلمان
وحاولوا إنزال العلم اللبناني عنه، تصدّى لهم، الصحافي آنذاك نعيم مغبغب (النائب
لاحقاً) وأطلق النار من مسدسه على محاولي إنزال العلم اللبناني وبدأت
المعركة".
وفق
ما ينقل عبدالساتر فإنّ" الوضع كان يبدو ميؤوساً منه، وقد اختبأ النواب ورجال
الحكومة والحضور في زوايا المجلس، لولا رجولة وبطولة رجال درك سيار بعلبك. أخذ
الحماس بحسن عبد الساتر الذي أخذ يحدو بصوته الجهوري متصدّياً ببطولة للمهاجمين
مستثيراً نخوة رفقائه. لفت صوته العالي، وغزارة رصاصه، المهاجمين والفرنسيين
المتركزين في بناية الهاتف المقابلة يطلقون منها النار على المدافعين، فأسقطوا حسن
عبد الساتر برصاصة قاتلة. ولكن المحاولة فشلت وتراجع المهاجمون مندحرين ولفلفت
الحكومة القضية فيما بعد".
وهنا
يروي مقربون من عبدالساتر لحظة استشهاده بالاشارة الى أنّ رئيس مجلس النواب
اللبناني آنذاك صبري حمادة خرج من البرلمان الذي طوّقه الجيش الفرنسي، وهو يحمل
العلم اللبناني والبندقية. في تلك الأثناء، كان الدركي عبد الساتر واقفاً قرب باب
البرلمان. لم يتحمّل مشهد العلم الفرنسي، فدفعته "حميّته" باتجاه حمادة،
أخذ منه العلم "عنوة" وتوجّه به إلى السارية ليعلّقه ويرفعه، صارخاً
بصوت عال هتافات وطنية. حينها، قال حمادة، وفق ما يروي مسنون، "لوين طالع،
بيقتلوك يا مجنون!". لم يكد ينهي حمادة كلامه حتى أُطلقت رصاصات من عسكري
سنغالي يطوّق البرلمان باتجاه رأس حسن فاخترقت الخوذة وأصابته مباشرة ليقع شهيداً
على الأرض.
طي آخر علم فرنسي في بعلبك
وعن
مأتم الشهيد عبد الساتر، يقول المحامي عبد الساتر "كنت آنذاك أقضي عطلة
الربيع في بعلبك. استثارت المعركة البطولية واستشهاد حسن عبد الساتر عواطف
البعلبكيين إلى أقصى حد. استقبلوا جثمانه خارج بعلبك بحشود غفيرة رافعـة الأعـلام
اللبنانية الجديدة. وأمام سراي بعلبك " وقفت خطيباً لأول مرة أؤبن قريبي
وأطري بطولته واستشهاده وأستثير النقمة على المستعمرين الفرنسيين وعملائهم داعياً
إلى الثأر. لم يعجب تطرفي رئيس فرع الكتائب في بعلبك الدكتور أ. حايك، فانسحب من
الحفل احتجاجاً".
ويتابع
عبدالساتر بالقول" كان من المفترض أن ينقل جثمان الشهيد إلى مثواه الأخير في
قرية إيعات. وكانت الطريق تمرّ حكماً أمام مركز الأمن العام الفرنسي بجانب هياكل
بعلبك. وكانت الدائرة الوحيدة في بعلبك التي لا تزال ترفع العلم الفرنسي بعد أن
كان الإنكليز قد قلّصوا النفوذ الفرنسي إلى حد بعيد..قبل دخول الجثمان إلى بعلبك
حسبت للأمر حسابه وأعلنت رفضي بأن يمرّ الجثمان تحت العلم الفرنسي. كان رئيس
المركز قريباً لي. اتصلت به ودعوته إلى إنزال العلم حتى لا نضطر إلى إنزاله
بالقوة، الأمر الذي يسفر عنه مهاجمة المركز وإحراقه. حاول إقناعي، بروابط القربى،
أن أعزف عن ذلك. وأصرّ كل منا على موقفه، فاستدعيت نفراً من الشبان المتحمّسين،
قوميين وسواهم، وهيأنا الخطة لاقتحام المركز وإنزال العلم الفرنسي وإحراقه ساعة
مرور الجثمان أمام المركز. وقد أظهر الشبان حماساً واندفاعاً في ذلك. ولكن عملية
الاقتحام لم تجر لأن الأوامر جاءت من بيروت إلى مركز الأمن العام في بعلبك،
بالموافقة على إنزال العلم وطيّه بالحسنى، وطي العلم. وبإنزاله طُوي آخر علم فرنسي
كان ما زال مرتفعاً في سماء بعلبك. ولم يبق من مظاهر السلطة الفرنسية فيها غير
مركز ومنزل المستشار الفرنسي دون أن يرفع على أي منهما أي علم".
ويُضيف
عبدالساتر "زاد ذلك في حماس الجماهير التي حملت جثمان الشهيد على الأكف بموكب
مهيب، مسافة خمسة كيلومترات إلى قرية "إيعات" حيث ووري الثرى وسط
احتفالات امتدّت أعراس بطولة على عدد من الأيام إلى ما بعد عيد الشهداء في 6 أيار
، حيث أقيم في سينما الأمبير في بعلبك مهرجان خطابي حاشد تكريماً للشهيد".
لعله يأتي يوما على هؤلاء المسؤولين المحتفلين بالمناسبة أن ينصفوهم ولو بتكريم واحد والاضاءة على الجانب الانساني والوطني .
والمهم فيها انها موثقة يعطيكم العافية للكاتبة والناشرة
فإن أقل ما يجب القيام به حيال تضحيات أولئك الذين اختاروا العمل ضد الإستعمار بدلا من الإنضمام لصفوف خدمة المستعمر كما فعل الكثيرون خوفا أو طمعا، هو التعريف بهم، والاعتراف بهم كأبطال بذلوا نفوسهم نيابة عن كل من عانوا من ويلات الإستعمار حول العالم. وعلى الرغم من استمرار المستعمر في إعدام من يعملون ضده في الساحات العامة وتوثيق جرائمه في إصدارات مرئية يجبر الأهالي على مشاهدتها في النقاط الإعلامية المنتشرة في الأراضي التي يسيطر عليها، إلا أن من الواضح أن أعداد من يعملون ضده من الداخل في تزايد مستمر ولم تردعهم مشاهد القتل من مواصلة عملهم.
فهم أبطال يستحقون التعريف بهم حقا...!
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.