وفي الروح
نقوش بهاء وآيات
الكاتب: الأديب
أحمد وهبي
عشر سنوات، وكان تموز
ينضج في القلوب، يشرق مؤرخًا لهذه الدماء والبلاد والناس، وشهر آب ينتظر، يتفتح الشوق،
وتنكسر سلالات الميركافا، ويسقط العدو الصهيوني. ونحن حمى الجهات والبيداء والثرى،
دخلنا كساء هذا المجد، وقد جفلت اﻵفاق لثلاثة وثلاثين يومًا... والأعراس حجيج الأرض
حتى اكتحلت الورود، واكتملت الظلال تطلع من عين الشمس.
أوﻻء الساجدون اﻷقوياء
البواسل، يعبدون بالنجيع صهوات الريح والمشاعل والمشاعر، ويحلمون، يحملوننا في أساطير
الأحلام من قراهم والدروب الطويلة، ومدارس النضال والعطاء، وفيها ما يشابه الأنوار،
ويحفر اﻻنتصار تلو زناد ودعاء ورجاء، يرفدون التاريخ... بأنا هنا مثل الوضوء والصلاة
ولون الأرجوان وضحكات الينابيع والمساءات تتملاها هامات عالية وادعة...
وبأنه ما يشابه البحر
والغيوم والسراة، حتى نمضي للشهداء وقد عانقوا
مأد الأرواح، فما انكسر جذعُ سلاحٍ، وﻻ استكان نبضٌ تحت جلد الوجع، فعنها الداخلون
شكراً للسماء والدماء، وعنها راياتُ الشموخ والعيون والزغاريد تصقل المطارح، وعنها
تلك المعارج الوضاءة والسروج والعنان، وعنها الصباحات تبزغ بين الأوراق، نسائمها بأنا
كنا هنا من تلٍّ وكرم وببت، وهذا الزحف نحن... فدخلنا شهداء ﻻ يموتون، وطيور النار
والحديد تتساقط على مائدة تموز، تتضاعف مائدة الرب، فقاذفات اللهب، وحماﻻت الحديد تنوء
بأحمالها وأثقالها في وادي الحجير، وساعور مدّ اليم... مدَد يا بلد، ففي كل كلمة وطلقة
صورة بيضاء عند فيافي وحوافي العمر، وتلك العيون نتلوها بصلاة الدم، فتفجرت الرؤى،
وراح الحبر يسطر نحيب الطغاة، والأزمنة مداد... فقلنا شوقا للوجوه والنذور، للعبور
بهامات عالية، وللدهور هذي الملاحم ومواكب الأهل في الميادين.
ولنا أرواح عالية. للعدو
انكسار الروح، وما بين زمن وعشق خبز مكحّل، وملح يقطر الحب، وتين وزيتون ورمان، والغيوم
معنا والملائكة والهلال والتلال، وغصبة الثرى تكسر قسمات الغرباء، فاستحال سلاحهم نقمة،
واليد اليمنى ترمي، واليسرى تعجن، وكلنا في المعركة حتى آخر نقطة دم تصير طوفان.
وكنا نتسلّق بزوغ المجد
واﻻنتصار، فشهداؤنا شهود الأرض والسماء، ومن أجل الأمهات والأطفال والليالي... والنجيع
تنحني الشموس، فهنا عند العتبات تاريخ جديد، وخارطة الوجود ﻻ تتغير، هنا ﻻ ينتهي السهر
وﻻ الكلام وﻻ الندى، وهنا تنظم البيوت كما القامات والبحور، وعلى جدار الزمن... إنّ
رجال الله مشوا فوق النار كما الماء كما نعبر إلينا بنبؤات النصر ووشمات الحبق، وقد
صلى فينا الضوء واﻷفق منارًا يندفع بملاعبه، فغزلنا الغار والبيلسان وقلوب الصغار،
وقد كبروا، كبرنا بين يوم من تموز وآخر، ولنا بيض الأحشاء والبشارات وضفاف الأنهار.
تلك النهارات تدلّت عناقيد
العنب، واغتبطت اكواز التين، ورتلّت البنادق، وحبيبات التراب تروض الوحوش. ونحن في
الحياة، في كل الحياة نعيش بشرًا حقيقيين، ﻻ نتعب من دمائنا نبذلها، ونستمر انتصارًا
وفي الروح نقوش بهاء وآيات، في الروح هذا الدفء وتموز مثل نجم وآب، في الروح كل أم
وأب وأخ وأخت وطفل، في الروح ما ﻻ ينسى، صور الأيام وهذا السطوع.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.