حين يجتاحنا السراب والجراد والخراب والحداد ماذا نفعل؟
الكاتب: أحمد وهبي
اللوحة للفنّان الراحل: اسماعيل شمّوط
حين نحتاج حلمًا، قمرًا تطاردنا نهاراتٌ
مكسورةٌ مفجوعة، ليالٍ نتخالسها وفي البال كيف نتكدّس بلا ظهور؟ حتى قالت حياة
ثالثة ورابعة... والقول حمّال أوجه. فالدموع لم تردّ غائبًا. ونحن القصة من ألف
أول قطرة دمٍ، ورائحةُ اﻷبدان توجعُ اﻷمواج، نمرُّ بها، بقربها، بعيونِنا بلا نظّارات،
وﻻ حاجة للبكاء، فالسعف متقلّب اﻷمزجة، والمقاهي تضلل الليالي، والمفتونون صغار
اﻷقاصي البعيدة، يجرّدونها من ثياب العفة، فلا حياة لحياة سلبت ثوبَ اللعب.
الملاعب التي نرغبها،
نرعِبها بتجسّد مهرة كانوا تعلقوا بسادني اﻷكوان، وقد رغبوا رحيقَ حورياتٍ بشفاهٍ
غليظة... عليها تعرّت فتيات الدنيا، أغواها أميرُ البحار واﻷسحار، وكان للصعيد
اعتراء الخوف، قارسًا مثل حديد مصهور صُبَّ من فوقِ قامةٍ ﻻ تحرِّك ساكنًا، كأنما
إخضاعٌ شهويُّ المفاتن لفراشاتٍ نازعةٍ لاحتراقِها، احترافُها المدوّنُ في سجلاتِ
السجّان، فامّحت أناملٌ تجدّرت قصصها ورسومها بقابعي السجون في الحياة، في مقابر
الأرقام قصصُ عاشقينَ فدائيين من رائحةِ عودهم وعودتهم بطقوسٍ مشتهاةٍ، تمرّد في
بئر الغوايات على حد السكين والحجر.
بشر وإن خانت اﻷقدار فأقم
فوق صهوها خيم الشتات، واذهب إلى المنافي بمفاتيح العودة، واطلق رصاصةً ونظرةً
وكلمة... لكن ﻻ وقت للبكاء.
وأخرى تدلت بثوبها
الفضفاض... أنا الحارة والملاعب، أنا الحياة والوجوه واﻷصوات، أنا الأيام وقصصُ
الحبِّ والغيرة والعشق، أنا اﻷسيرة بتبتلات العذارى، أنا اﻷرض والطفل والحجر
والمعول والسكين وغضبة الأحرار، والثوار المهاجرون والأنصار، أنا التاريخ والمصير
والحنين والزمان والمكان، أنا الحياة الممردة بنجيع الشهداء، أنا حاملة الماء
بوجهٍ وروحٍ وقلبٍ ونبض، أنا من تروي وﻻ ترتوي.
كأنها نفسي، أجزاءُ روحي
تتلوّن بظلالها، تحاكي خبايا خفايا تماهي
تصوّف يسرد حكايا البشر. كأني اخترق اﻷزمنة ﻷجيءَ زمني بمعاجز الأنبياء، ﻷجمعَ
حلقاتِ الحجب واللجب والغضب بححابِ أمي علَّ تقيني أرجوحة الحياة إذا تقطّعت
حبالُها ووصالها، كي تهديني خلاصَ دعائِها وصوﻻً وحلولاً في أيكةِ زماننا... فيها
جماﻻتُ الرؤى والحنين، سقيا الضوء يمنحنا صورَنا، تماثلات وجدانية تطرد شياطين
العقائد.
عن أمسية قلّدت خطابًا شديدَ
القهرِ، رغباتٌ متوافرةٌ لمقبلين بإيماءاتٍ تتناولُ أفكارًا قديمة، تحاول إحياءَ
مومياءاتٍ فقدت قدرةَ النطقِ ولم تفقدْ قدرةَ النص... نص فاتحةِ كهنةِ العصر
وسدنةِ الوهمِ، يرومون كسرَ العالمِ بسردبةٍ ﻻمتناهية لكلِّ هذا الموت والدمار.
ﻻ غياب لرياحٍ كبرى وصبح
ومساء، تتخاطفني قصصُ الجنِّ واﻹنس، فأخلص إلى كليلة ودمنة، وبتواطؤٍ معيشيٍّ
يدفعني طربٌ خفيٌّ إلى شهرزادَ، أملس على صدرها بعباراتِ فتياتٍ صغيرة، وللوقت
ضفائر لياليهن ضاربة في الروايات، فانسدلت عن وأدٍ ورعبٍ ورب، والناقد ﻻ يصمت،
أحمل إليه وردةً من بستانِ الدنيا، يسأل عن اﻷسلوبِ والعملِ والمدينة، عن كأسٍ
أدمَتْها قوافلُ الشفاه.
بعد اﻹنتهاء من سنينَ مضت،
قضتِ اللحظةُ بولوجِ عبارةٍ أخرى لحياةٍ أخرى خارج النص، فانفلتت أجزاؤها بنفوسٍ
مشوبةٍ باصطراعِ طائراتِ الورق. بأنني حين صدر الرجلُ عن الولدِ عن الطفلِ لم يعبر
سنواتِهِ بأكثرَ من ثانيةٍ فاصلةٍ ما بين الموت والحياة.
والمؤلف الذي يؤمن بمبدأ "تقد الذات" كما هو حال أديبنا الأستاذ أحمد يرى أنّ البحث عن أسباب الأزمة يجب ألا يتجه دومًا إلى الخارج فلولا الكيان الضعيف والهش (اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً) لما أمكن للآخر استعمارنا. وعن أسباب هذا الضعف الكامن على جميع المستويات والأصعدة يكون البحث بدلاً من تعليق أسباب النكوص على شماعة الآخر.
وهكذا أبدع استاذنا كعادته في بحثه عن الحقيقة دون اتباع منهج التفكير بالأماني والرغائب. وهذا البحث عن الحقيقة هو الباعث المحرّك لنقد الذات بعد محاولة اكتشاف خصائصها بشكل موضوعي دون مبالغة أو تهوين.
يسلم قلمك واحساسك
وصف الحال المتردية التي نعيشها باسلوب راق وصريح بعيدا عن اسلوب اللف والدوران
وبرايي يجب ان تحدد نوع الاستعمار هنا لان الاستعمار الطائفي هو اصعبها وهو ما نعيشه اليوم بكل تفاصيله.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.