
خلف كل حربٍ نكبة
العائدون من كاليدونيا الجديدة
الكاتب: هاجر شويط - الجزائر
هكذا كنا نلتفّ عائلة واحدة
خلف الشاشة الصغيرة، يسود انتباه كبير، تركيز مفرط، تأثّر ودموعٌ كثيرة، نتابع
وتسقط دموعُنا دون دراية منا ومنها، نبكي كلٌّ في كيسه الخاص، في زاويته وركنه،
الذي يتحاشى أن يظهره للآخر، الدموع تشبه تهمةَ إمساكِ آلةٍ حادةٍ فكيف لا يشبه
بكاؤنا ممارسةَ جريمةٍ، مبتوري الإنسانية دومًا، نمارس إنسانيتَنا على استحياء،
بينما لا نجد مانعًا في إظهار جانب من وحشيتنا، هكذا يربّينا المجتمع، لكن كريستوف
كان يترك لدموعه الحرية المطلقة أمام من يحملون جذورَه، يسري في عظمهم نفس نقيّ
عظامه، ودمٌ من نفسِ النوع، أولئك الذين عاشوا في وطنٍ هو وطنه، يتكلمون لهجةً كان
لَيكلم بها ويفهمها لكن ..، بين أشجار الزيتون التي كانت واحدة منها شجرة
"تسعديت" وهي أم جدِّه الذي نُفِيَ قبل أكثر من مئة عامٍ إلى كاليدونيا
الجديدة، "الكثير من الأحاسيس" هكذا ردّد وسط جمعٍ من دشرته في أحد
دشائر القبائل الكبرى "الأمازيغ البربر"، حيث تعالت الزغاريد وصوت
البارود، طواجن الكسكسي، في حفلٍ بهيج لاستقبال ابن دمهم، كان شعوره يقع بين الألم
الكبير والسعادة المفرطة. يذهب كريستوف إلى شجرة "تسعديت" فاتحًا الستار
على أسنانه، آخذا غصنًا صغيرًا، "هذه شجرة الزيتون قد زرعتها تسعديت، شجرة أم
جدي" .. يحمل كريستوف صورةً ويقول هذا جدي، وهذه الصورة الوحيدة التي نملكها،
ويهدي له قارورة من زيت الزيتون، ويدلف بها حجرة كانت لأم جده قبل نفيهم إلى ما
وراء البحار. بعد عامين يعود كريستوف مع ابنه وابنته تحت شجرة "تسعديت"،
كمن ينام تحت النخلة التي ولدت تحتها السيدة مريم العذراء، ويسود هناك الكثير من
الفرح والسكينة.
فرنسا العجوز لم تترك وسيلة
بطشية، ولا طريقة تعنيفية إلاّ ومارستها على الشعب الجزائري، منذ طلائع الاحتلال،
ولكنها ماذا تفعل بشعب صامد؟، ماذا كانت ستفعل بشعب اختار موته في سبيل تحرير
أرضه، وهويته؟، فاختارت أسوأ ما قد يحدث لإنسان وهو نفيه عن وطنه، الأرض والهوية،
اللغة، العادات، وحتى الدين، هكذا اختارت العجوز الشمطاء أن تفعل بالجزائريين
عندما اختارت لهم كاليدونيا الجديدة، (الواقعة في المحيط الهادي والتي يتطلّب
الوصول إليها اجتياز البحر الأبيض المتوسط مرورًا بالبحر الأحمر فالمحيط الهندي)
من خلفهم بحر، أمامهم بحر، وبين أيديهم حلٌّ وحيد: التكيّف، التأقلم والعيش، وكان
ذلك فعلاً، عاشوا هناك وماتوا هناك، عاملين بمقولة: "اللي خلف مماتش"،
منجبين أجيالاً جديدة لا تعرف عن وطنها - الجزائر- سوى الإسم وأين تقع على
الخارطة، كذلك بقيت حلمًا في جعبتهم، لم يتخيّلوا يومًا أن تسقط في دائرة الواقع،
هكذا قالت (صونيا بركات) واحدة من الأجيال الجديدة لجزائريي كاليدونيا الجديدة،
صونيا حين وصلت إلى دشرة بمدينة "سطيف"، أصول جدّها المولود في 1861م
بكت فمن استقبلها كانوا من أبناء العمومة الذين يحملون نفس ملامحها ليزيدوا
برهانًا على الترابط والقرابة، دلفت بيوتهم في تلك القرية بيتًا بيتًا، قائلةً:
La famille BARKAT aussi، ثم قبّلت رأس شيخ كبير
يبدو أباها وهو يحمل نفس خطوط الوجه، ثم أمسكت ببنصره مبتسمة وهي تقول: le
même sang
.. "إنه نفس الدم".
هي الأخرى ردّدت بحرقة وبكاءٍ شديدين: "الكثير الكثير
من الأحاسيس"، بين دشرة كاملة تحمل نفس اللقب، نفس الدم والعظم والملامح، غير
مصدّقة ماذا يحدث، "إنه من المستحيل الوجود هنا"، وقبل أن تخرج من الروح
التي دلفتها هناك نظرت إليهم واحدًا واحدًا:
"كنت أنتظر
أن أرحل وأنا أحمل صورة جميلة عن الجزائر، أنتم هذه الصورة الجميلة".
فرنسا
أرادت أن تطمس الهوية الجزائرية، من لغةٍ وعاداتٍ ودين، ربما استطاعت أن تفعل ذلك
في هؤلاء الأجيال الذين ولدوا في أرضٍ غير أرضهم، فهم يتحدثون الفرنسية ولا
يعرفون من العربية سوى "السلام عليكم"، واستطاعت أن تزرع فيهم عاداتٍ
أخرى، وربما حتى الدين الذين ينتمون إليه، ولكنها لم ولن تستطيع طمس أو تجريد هذا
الحب الفطري فيهم لوطنهم، لتراب أرضهم كالذي حملته صونيا معها، ولم تجرّدهم من
الحنين إليه، ولم تمنعهم من زيارته بعد سنواتٍ طوال أكثر من قرن، ولم تستطع منع
دموعهم الكثيرة من السقوط سعادة عندما وطأت أقدامهم أرضهم، واستنشاق هوائها والأكل
من ثمارها، وإن كان آخر ما قاموا به في حياتهم، ذلك بالضبط ما حدث في عائلة مستورة
المتكونة من ثلاثة أبناء ياسمين وكاتيا وأخاهم، حين زاروا "قسنطينة" أين
التقوا بعائلتهم، ثم مدينة "بسكرة" مسقط رأس جدّهم المنفي، احتفوا
بالنخيل، الرمال، الشمس والهواء، بالتمور والجمال، وجرّبوا جزائريتهم كذلك... ثم
ودّعت ياسمين وكاتيا الحياة، ولكن شقيقهما أتى بعائلته الصغيرة كذلك لتصبح عادة
متواترة في العائلة.
خلف كل حربٍ نكبة، وخلف كل
حربٍ نزيف دامٍ من الإنسانية، النفي والنكبات والمخيمات، إنه لمن أسوأ ما قد يحدث
للإنسان، شعور اقتلاع العروق من الجسد الحي، اقتلاع الجذور من الأرض ومحاولة زرعها
في مكان آخر، كتكيف وتعايش إجباري ولكن الحنين إلى المنبت الأصلي لا يموت، لذلك
بعد كل نكبة عودة، هنا نستحضر "عائدٌ إلى حيفا" لغسان كنفاني،
"الطنطورية" لرضوى عاشور، "أجيال عائلة أبو الهيجا التي رحلت إبان النكبة
في فلسطين، "بينما ينام العالم" لسوزان أبو الهوى، كانت النكبة
الفلسطينية أسوأ النكبات التاريخية على الإطلاق، النفي إلى سوريا، لبنان والعراق
ومصر والأردن، (مخيم عين الحلوة، اليرموك، قانا ودير ياسين، الزعتري) ومخيمات داخل
الوطن الأم كمخيم قلنديا: نستحضر المشهد، رأيتُ رام الله والأعداد اللامتناهية من
العوائل والدشائر، وصورالمفاتيح المعلقة في الرقاب، المفاتيح التي تغلق وتفتح
صندوق حلم (العودة).
تعود صور المهجرين
العراقيين، والسوريين، لا عجب أنه بعد سنواتٍ سيطلق مصطلح "العودة" على
ألمانٍ من أصلٍ سوري، وعلى سويديين من أصل عراقي، وسنعيد مشاهد الدموع والبكاء
لعوائل في ريف حما، وحلب ودير الزور: هذه مدينة أبي، هذه شجرة جدي، وسيمسك بيدِ
عجوز قائلا: "نفس الدم"، أو يأخذ غصنًا صغيرًا من شجرة مردِّدا:
"هذه شجرة أم جدي".




والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.