وليد غلمية
رحلة
على أوتار الغروب
الكاتب: مريم شعيب
دأب
على إحياء الحفلات الموسيقية قائداً للأوركسترا حاملاً عصا المايسترو, واثقاً
بمؤلفاته الموسيقية الراقية, مؤمناً بإبداعه. بعد أن غمرت حياته الأضواء كموسيقار
ومؤلف سمفوني وباحث وأكاديمي وملحن, رحل الموسيقار وليد غلمية عن عمرٍ ناهز 73
عاماً, بعد صراعٍ مع مرضٍ عضال أصرَّ أن يخفيه إلاّ عن زوجته التي شاركته رحلته
بكافة مراحلها.
ولد
في بلدة جديدة مرجعيون الجنوبية عام 1938, درس الموسيقى في السادسة من عمره, وبدأ
التأليف الموسيقي في الخامسة والعشرين منه. جمع بين الموهبة والعلم وراح يطوِّر
نفسه ساعياً إلى تحقيق ما يصبو إليه, وسرعان ما تحوّل من الملحن والعازف إلى
المؤلف الموسيقي, وبعد أن اشتهر في هذا العالم تمكن من الحصول على الدكتوراه في
علم الموسيقى وهو في الرابعة والستين من عمره.
48 عاماً من العطاء, تمضي الأيام لنراه متألقاً وناضجاً ومبدعاً في
التأليف الموسيقي, وتصل به المحطات السمفونية ليصبح مايسترو عصيٌّ على النسيان,
خاصة وأنه في هذه الحقبة من حياته حفر صورةً ذهنية لشخصية الموسيقار القادر على
استيعاب متغيرات الزمن وعلى الإمساك بكل مفرداته.
واليوم
نستعيد بعض ومضات من مشواره صارت هي العنوان الأبرز في قاموسه الموسيقي.
التقيته
للمرة الأولى في ألحانه الباهرة،
ثم تعرفت إليه بصورةٍ أعمق حين قصدته قبيل نهاية العام 2010 (أي قبل عامٍ من تاريخ
وفاته) لطرح فكرة عمل مشترك, وجدته منهمكاً بأوراق نوتاتٍ كان يرتبها. سرقته من
عالمه لدقائق معدودة أغنت رصيدي الفكري, تركته خلالها يسرد -فخوراً- ما يحلو له من ذكريات.
في
شخصيته ميزات كثيرة فضلاً عن الإبداع, وأشهرها طموحاته التي ما انكفت عن النبض حتى
الأشهر الأخيرة من حياته وهو يفكر بإنشاء دار الأوبرا في بيروت انطلاقاً من عقيدته
بأن "الموسيقى ليست فناً بقدر ما هي علم, والإبداع في المعرفة والعلم يجعل من
الموسيقى فناً محسوساً...", مؤكداً أن أسس ثقافته الموسيقية هي علمية,
وجوهرها إنساني.
كان
يعارض فكرة أن تكون اللغة هي التعبير الوحيد لدينا سواء بالكلمة أو اللفظة أو حتى
القصيدة, ويؤكد أن الموسيقى تكون تعبيراً تاماً أيضاً, فكان نتاج ذلك أول اسطوانة
موسيقية خالصة في العام 1968 حملت إسم
" من ليالينا " وضمت إحدى عشرة معزوفه موسيقية.
يشبه
إلى حدٍّ كبير ألحانه وموسيقاه وقد وضح ذلك في الكثير من أعماله حيث مال إلى تنوع
النغم والمقامات وحرص على التحديث وربط الموسيقى الشرقية بالموسيقى العالمية مع
حفاظه على أصالة الموسيقى الشرقية.
ظلّ
وفيا باراً بفنّه الأساسي منقّباً عن المعدن النفيس في الألحان والموسيقى, لم يترك
أولاداً وراءه لكنه ترك إرثاً موسيقياً يغني أجيالاً بعده.
وبجانب
الصعود الهرمي في رحلته الثرية نرى اتساعاً أفقياً في البانوراما الحياتية له,
ونكتشف مناطق جديدة من خلال علاقته بزوجته التي تروي بعضاً من مآثره وخصوصياته
الفنية، فنتعرّف على أولويات حياته لنجد الموسيقى على رأسها، لا تضارعها عند غلمية
أشياء أخرى غير صحته, فكان شديد الإعتناء بهما يخشى على نفسه من المرض كما يخشى
على إبداعه منه, لذا لم يوقف مسيرته الموسيقية لحظة واحدة.
إنَّ
كل من عرفناهم من المبدعين في عالم الموسيقى كانوا صنع البيئة التي نشأوا فيها أي
صنع التقليد والتراث, أمثال وديع الصافي, فيروز, زكي ناصيف, وليد غلمية والرحابنة,
كانوا محاطين بجمهور ذوّاق للكلمة واللحن هذا ما دفعهم إلى الإبداع والإنتاج. وفي
رحلة وليد غلمية كانت الموسيقى تهدف إلى بناء الإنسان بحيث كانت تعد الوسيلة التي
يعبر فيها عن أحاسيسه وقضاياه. عكس ما آلت إليه الموسيقى في عصرنا هذا.
والكاتبة، اذ تعيدنا في هذا النص لنستذكر عملاقا من عمالقة الفن في لبنان والعالم العربي، تعمد إلى مقاربة تخلص من خلالها إلى أنّ غلمية الفنان لا يشبه إلا غلمية الإنسان المنتمي إلى شعبه وناسه والذي كان دوما يصر على أن يكون للفن رسالة نبيلة ترسم الفرح على وجوه المهمشين والمعذبين.
هي المريم ، بحلوها ،وحنينها ،ورقراقها الدافق العذب،
جداول من الحلا ،
تنقلنا خلالها إلى شطآن خالدة من ذكريات ، لا نعلم إن كانت هي خارطة الطريق؛
أم أنها العبق القادم من اللو والتمني،
عبث الذاكرة المتمردة إلا على الأصالة والجمال والعبقرية الفتانة
جودي ، وأكثري ؛
فإن غنانا،ناقصاً لولا تلك الذخائر الخالدة
وللحياة السعيدة، بسمات المحبين، وردة ثغرهم، ونصائح سديدة. أحسنت عزيزتي مريم بسردها، ونقلها إلينا كي ننعم بقيافة عمقها، كمن يختبئ في الرحم بما صرنا عليه... كي نتطهر.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.