ذكريات زمن مضى

طال الليل ولكن الصبح بات قريب

العلاقات اللبنانية الفلسطينية

تحقيق: مريم شعيب

بموقعه على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، عرف لبنان أدواراً اقتصادية وسياسية وثقافية مهمة في تاريخه، خصوصاً في عصر الامبراطوريات (الرومانية والفرعونية والفارسية)، وكان صاحب دور ريادي على حلبة التجارة في المرحلة الفينيقية، وقد تبلور هذا الدور التجاري في العهد العثماني، حيث أضحى وسيطاً بين مراكز الإنتاج الصناعي الأوروبي والأسواق الاستهلاكية الأسيوية والأفريقية بعد انطلاقة الثورة الصناعية الأوروبية، ونمو المواصلات البحرية، وازدهار التجارة الدولية.

وبموقعها على المتوسط احتلت بيروت مركزاً مرموقاً في التجارة بعد أن ربطت بدمشق وسائر المدن السورية بطريق العربات ثم محطة السكك الحديدية. وتعزز هذا الدور بعد نكبة فلسطين في عام 1948 التي انتقل دورها التجاري إلى لبنان فتوسع نطاق الخدمات اللبنانية ليشمل دول الشرق العربي وشبه الجزيرة العربية.

 ويطلق اسم جبل عامل على معظم الأراضي الواقعة في جنوب لبنان وعلى قسم قليل من الأراضي الواقعة على الحدود في شمالي فلسطين المحتلة. فيحده نهر الأولي وجزين شمالاً، وفلسطين جنوباُ.

نشأت العلاقات التجارية بين أهالي جبل عامل وأهالي فلسطين، منذ حوالى مئتي عام، وكانت القوافل التجارية، المحمّلة بالبضائع والسلع على ظهور البغال والجمال، تأتي إلى سوق بنت جبيل، من معظم أنحاء فلسطين، ومن غزة والعريش وحوران، فأخذ جبل عامل أهميته التجارية قديماً، وفقًا لعلاقاته بالجوار العربي، خاصة السوري الفلسطيني، من خلال سوق بنت جبيل الأسبوعي. و"بنت جبيل" بموقعها الجغرافي المهم على الطريق الأساسي الذي كان يوصل لبنان بفلسطين، أعطت السوق أهميته، حيث كان يؤمّه كبار تجار الحبوب من حوران وفلسطين، وتجار المواشي من حلب وحمص والبقاع وفلسطين، وتجار السلع من طرابلس وعكا وبيروت ويافا والقدس، وتجار الخضار والفاكهة من الزبداني ويبرود في سوريا. ففي كل يوم خميس، كان سوق بنت جبيل يغدو ملتقى القوافل التجارية من المنطقة وجوارها، حيث اعتبر البوابة التجارية لجبل عامل من ناحية فلسطين، وما زال يقام حتى اليوم.

ظل سوق بنت جبيل عامراً بشكل لا مثيل له حتى سنة 1948، حيث أصبحت المنطقة مركز عمليات عسكرية ودخلتها قوات جيش الإنقاذ، وقوات عربية أخرى، عملت على استرجاع ما احتلّه العدو الصهيوني، من الأراضي الفلسطينية واللبنانية .
لكن الخيانة لعبت دوراً كبيراً، في إسقاط فلسطين، بأيدي اليهود، وأقفلت الطرق بين فلسطين المحتلة ولبنان، ما أثّر سلباً على سوق بنت جبيل، وغيره من الأسواق الأخرى، التي كانت تتغذى أساساً من التبادل التجاري بين لبنان وفلسطين، رغم أنّ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، انعكس في البداية ايجاباً على سوق البلدة، بفضل عودة نازحي بنت جبيل من بيروت. إلّا أن العدو الصهيوني قصف السوق مراراً، بهدف إيقاف الحركة التجارية في المنطقة، وتأثيرها على اقتصاد السوق الصهيوني في شمال فلسطين المحتلة، لكنهم لم يحققوا الهدف بسبب فشل حركة التطبيع التي رسموها، وأصبح التجار يستوردون بضائعهم من الداخل اللبناني، عبر بوابات العبور، بمعاناة وصعوبات وضرائب تفرض على المستهلكين .
حتى عاد سوق بنت جبيل إلى سابق عهده وأهميته، بعد التحريرعام 2000، حيث أصبح الباعة يقصدونه من  كل المناطق اللبنانية.

يقول أبو أحمد التسعيني  أن والده كان يعمل تاجراً في سوق الخميس في بنت جبيل، ولطالما اصطحبه معه إليها، فيؤكد نشاط عملية البيع والشراء فيها آنذاك، وكانت العملة المتداولة هي الليرة الفلسطينية، وأحياناً اللبنانية، حتى الأربعينات من هذا القرن. وبعد النكبة، أصبحت الليرة اللبنانية تأخذ مكان الأولوية في السوق، إلى أن أصبحت العملة المتداولة الوحيدة بعد سنة 1950.  

 أما عبدالله عاصي روى ما حفظته ذاكرته واصفًا والده وإخوته وهم ينقلون الحبوب والبيض لبيعه في فلسطين، إذ كانت القوافل تسير بين جبل عامل وفلسطين، من المناطق البعيدة بشكل جماعي عند الصباح الباكر على الجمال والحمير الضخمة والبغال لتبادل البيع والشراء أحياناً، سلعة بسلعة، فمثلاً بائع القماش كان يشتري البيض والدواجن مقابل قطع القماش .

الأسواق الفلسطينية

 ومن أسواق فلسطين كانت مدينة حيفا التي تقع  على ساحل البحر الأبيض المتوسط في شمال فلسطين وهي نقطة التقاء البحر المتوسط بكل من السهل وجبل الكرمل، وهذا جعلها نقطة عبور إجبارية، كما أن موقعها جعل منها ميناء بحرياً أصبح الأول في فلسطين.

وبلسان جدي محمد عيساوي  الذي طالما حدثنا عن تجارته بالقماش بين حيفا وبيروت أصف السوق الذي كانت تتوزع على جانبيه، الحوانيت والدكاكين الصغيرة والمقاهي والورش الحرفية، كما تتفرع منه الأزقة التي تؤدي إلى مناطق سكنية، أو أزقة بحوانيت تجارية أيضاً.
فكانت تنتشر في نواحي السوق المقاهي الشعبية  قرب  الجامع وهو قديم جداً، وتلك المقاهي كانت توفر (الأراجيل والقهوة وكافة المشروبات) التي يتعاطاها المسافرون النازلون للاستراحة، فضلاً عن بعض الحلويات والكباب المشوي والمقلي، إضافة الى بعض الترفيه مثل لعب الورق والطاولة وغير ذلك. ما كان يجعل الحركة دائبة في السوق القديم خصوصاً في فترة الصباح الباكر الذي يعج بالمرتادين والباعة والمارة، حيث تعلو أصوات الدلالين الذين يعرضون البضائع بالمزاد العلني. كما كانت تنتشر دكاكين العطارة في السوق القديم، حيث كان العطار يبيع جميع مستلزمات الفلاحين من مواد غذائية أو أدوات أو أقمشة وبن ودخان أو ما شابه ذلك إضافة إلى العطارة.     

واحتلّت مدينة يافا موقعاً طبيعياً متميزاً على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وقد أسهمت العوامل الطبيعية في جعل هذا الموقع منبعاً يشرف على طرق المواصلات والتجارة، وهي بذلك تعتبر احدى البوابات الغربية الفلسطينية، حيث يتم عبرها اتصال فلسطين بدول حوض البحر المتوسط وأوروبا وافريقيا، وكان لافتتاح مينائها عام 1936 دور كبير في ازدهارها فيما بعد.
 

بالمقابل  تقع عكا في الطرف الشمالي لخليج عكا. وكان موقعا الجغرافي نعمة لانفتاحه على المناطق الأخرى في العالم ما ساعد على التبادل التجاري والاحتكاك الحضاري بين سكانها والعالم الخارجي، ونقمة لأنه عرّض المدينة لأطماع الطامعين، إذ يرتبط ميناء عكا بشبكة طرق وسكك حديدية أهمها: طريق السهل الساحلي الذي يربط عكا بحدود فلسطين الشمالية متجهة نحو لبنان عبر رأس الناقورة (17كم) وترتبط بحيفا بواسطة خط سكة حديد يتجه نحو الجنوب ويتصل بخط سكة حديد(القنطرة) في سيناء.  

اللجوء الفلسطيني إلى لبنان:

 بعد خمس سنوات من استقلال لبنان، كانت نكبة فلسطين عام 1948، التي أثّرت سلباً على حدوده الجنوبية حتى أصبح في خضم تلك الأمواج العاتية، لا قدرة له على خوض غمارها. لكنه عمل جاهداً على احتضان اللاجئين الهاربين من ظلم الصهاينة، متتضامناً ومتعاطفاً رسمياً وشعبياً معهم. حيث ردّد اللبنانيون جميعاً، الصرخة الإنسانية لوزير الخارجية آنذاك حميد فرنجية: "نستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين، مهما كان عددهم ومهما طالت إقامتهم، ولا يمكن أن نحجب عنهم شيئاً ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا، وما يصيبنا يصيبهم وسنقتسم في ما بيننا وبينهم آخر لقمة من الخبز". وبالفعل بادر لبنان حكومة وشعباً وعلى رأسه رموزه الكبيرة مثل رياض الصلح وبشارة الخوري وحميد فرنجية وصبري حمادة وعادل عسيران وكمال جنبلاط وأحمد الأسعد ومعروف سعد، إلى تشكيل فرق الدعم والإنقاذ التي عملت مع الصليب الأحمر ومع الجمعيات والهيئات الأهلية على إغاثة اللاجئين وتقديم العون لهم.  

كما شارك الجيش اللبناني في المعارك ضد الاسرائيليين عام 1948، وخاضها مئات المتطوعين اللبنانيين بكل تضحية وشجاعة إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين. كما فتحوا منازلهم للاجئين مقدّمين كل ما أمكن تقديمه إليهم، كذلك فعلت المؤسسات الحكومية والمنظمات والجمعيات.

عاش اللاجئون الفلسطينيون، على أمل وحلم العودة القريبة، ينتظرون في خيمٍ منصوبة، إلّا أن اتفاقات الهدنة مع إسرائيل جعلت تحقيق الحلم بعيداً جداً. ما أدّى إلى نشأة المخيمات في مناطق لبنانية مختلفة.

طال ليلهم وهم ينتظرون الصباح المشرق، نسمعهم دوماً يردّدون: "إحنا راجعين"، فمهما طال الليل لا بد أن يأتي الصباح.

ومهما طالت سنون الغربة، فمفتاح الأمل الذي يحتفظون به قلادةً في أعناقهم، سيحدها ويرسم لهم طريق العودة.