الصابرة على مرِّ الحياة
قصةُ أمي
روتها: عبير سحمراني
كم كنت أتمنى منذ أن أصبحت في سنٍ يسمح لي بفهم أمور الحياة، أن أوفي لها جزءًا بسيطًا من كفاحها تجاهنا منذ رحيل والدي عن هذه الدنيا، وهي ما زالت في ريعان شبابها تاركًا لها سبعة أطفال أكبرهم لم يكن يبلغ سن الرشد وأصغرهم كان طفلاً لم تطأ رجلاه الأرض بعد.
هيام سعيد إبنة بلدة جويا الجنوبية من مواليد العام 1942، فيها ترعرت في منزل والديها المؤلف من عشرة أفراد، تلقت علومها الابتدائية في مدرسة البلدة لكنها سرعان ما شاركت والدها في تحمل مسؤولية العائلة، فتعلمت الخياطة وعملت بها لتساعده على مصاريف المعيشة حيث كانت تقصدها نساء البلدة والجوار.
وفي العشرين من عمرها تزوجت من محمد عبد الكريم إبن بلدة كفرا المجاورة البالغ من العمر 36 عامًا والقادم من منروفيا في أفريقيا حيث كان يقطن قاصدًا منزل والديها لسمعته الطيبة.
انتقلت هيام مع عريسها إلى منروفيا لتبدأ مشوارها الكفاحي في منزل الزوجية الذي كان يجمع إخوة الزوج جميعا، فكان نصيب هيام العروس الصبية هو أن تتبنى الإخوة لتكون زوجة لأخيهم، وأمًا مثاليةً لهم في الاغتراب حتى قبل أن تلد. تزوج الأخوة جميعًا ولم يبرحوا المكان، عاشوا فيه مع زوجاتهم وأولادهم كما عاشت هيام معهم بعد أن رزقت بأولادها الأربع. وباعتبارها الكنّة الأولى في العائلة تحملت مسؤولية حماتها التي كانت مستقرة مع زوجها في لبنان. ظلت تمارس مهنتها في تلبية احتياجات المنزل وطلبات الأفراد لتصبح "سندريلا" العائلة، "أمًا" لهذه العائلة، لم تكن تهدأ ولا تتذوق طعم الراحة، من الفجر حتى آخر ساعات الليل وهي تمارس رياضة المشي ذهابًا وإيابًا توفي طلبات العائلة بأكملها.
كانت المضحية وأم العائلة وكان محمد زوجها المضحي وأبو العائلة، يشقى ويتعب وينفق على إخوته وأولادهم وزوجاتهم وكأنه أبوهم الغائب. حتى كلَّ جسده وتعب، وبعد أن أصبح إنتاجه لا يغطي مصاريفه تقاسم وإخوته العمل وكلٌ رحل بنصيبه أما هو فكان نصيبه قد أُنفِق على الجميع. فكّر متأخرا بعد سبع سنوات أن يستقر في منزل زوجيةٍ خاص مع زوجته وأولاده، "فأن تأتي متأخرًا خيرٌ من أن لا تأتِ أبدًا.
حزم أمتعه واصطحب الزوجة والأولاد الأربع ليبدأ من جديد مشوارًا آخر من الكفاح الاغترابي في دولةٍ أخرى هي "زائير المعروفة اليوم بالكونغو الديمقراطية". استقروا بادئ الأمر في "لبمباشي" وهي إحدى المناطق النائيه في "زائير" تعذبوا كثيرًا من ناحية السكن وقلة الإنتاج لمدة سنتين حتى علم بعض الأصحاب بتدهور وضعه بعد أن كان ميسورًا جدًا متحملاً مسؤولية أكثر من عائلة ليصبح في وضعٍ يتعذر عليه فيه كفاية عائلته فقط. وطلبوا منه الانتقال إلى العاصمة حيث فرص العمل أكبر. فانتقل ليبدأ مشوارًا جديدًا أريح نوعًا ما، حيث رزق بإبنته التي احتلت المرتبه الخامسة بين إخوتها واعتبراها أبواها وجه الخير والسعد، إذ بقدومها تغيرت حياتهما وانطلقا بالعمل التجاري سويًا لتضيف هيام إلى وظيفتها الأم وظيفة أخرى لم تؤثر سلًبًا على حياة أطفالها ولم تنتقص منهم عاطفة أو اهتماما.
استقرت الأمور وهدأ التعب وضحكت لهم الدنيا بعد سنوات العذاب الطوال، وما إن ذاقت هيام طعم الراحة الذي لم يدم طويلاً، حتى أصيب زوجها محمد بمرض عضال أتعبه جدًا.
ونظرا لعدم توافر الأطباء وعدم تطور طرق العلاج في "زائير" اضطرت هيام لتقلب حياتها رأسًا على عقب، فطوت صفحة الاغتراب قسرًا لتعود بزوجها المريض وأولادها إلى لبنان حيث استقرت في بلدة "سبلين" لأنها أقرب منطقة توافر فيها لهم سكنٌ، لمركز علاجه في مستشفى الجامعه الأمريكية وكانت تتولى قيادة السيارة لنقله مرة أو مرتين في الأسبوع بحسب الحاجة للعلاج في بيروت، تاركةً عائلة في المنزل لتحفظَ عمادَ هذه العائلة. إلا أنّ القدر شاء أن خطفه بعد سنةٍ ونصف تقريبًا ما اضطرها للانتقال إلى بلدة صريفا والسكن مع والدتها لمدة سنتين. ورغم صدمتها الكبرى وهي في بداية مشوارها وصغر سنها إلا أنها سرعان ما تخطت حزنها بإرادة قوية، لتكمل مشوارها الأصعب الذي بدأته مع شريكها الراحل، فكانت أمًا وأبًا لعائلة أكبرها صغيرٌ، وأصغرها لم يكن يتجاوز سن المراهقة.
حينها فكرت بالرجوع إلى "كنشاسا عاصمة الكونغو"، وعاودت نشاطها التجاري برفقة إبنها الأكبر الذي أصرّ على ترك الدراسة ومساندتها وهو في الرابعة عشر من عمره، أما ثانيهم ابن الثانية عشر ربيعًا اضطر للانتقال إلى إحدى المناطق النائية في البلد ليعمل موظفا عند أحد أصحاب والده. كانت والدتها التي أصرت ترك منزلها في لبنان والانتقال مع ابنتها والأحفاد إلى أفريقيا، تساعدها بتربية الأولاد والاهتمام بهم حتى عودتها من عملها وكذلك أثناء سفرها لتأمين البضائع من الخارج. فكانت الجدة الحنون الصبور أمًا ثانية لأحفادها. وبقيت حياتها الجهادية مستمرة إلى أن تزوج جميع أولادها. وما زالت تعمل وتكافح وتجاهد ولا تتأخر عن مدّ يد العون لأولادها ماديًا ومعنويًا، حتى لا تمدَّ هي يدها لهم طالبة المساعدة خشية تكبيدهم أعباء فوق أعبائهم.
أليست برأيكم أمًا مثالية؟ بل وأكثر برأيي أنا، وتستحق كتابة قصتها كردٍ معنويٍ لما قدمته لي، وفي كل الأجوال لن أفها حقها فهي لها الكثير والكثير، وما نحن سوى الجزء من هذه الصابرة على مرّ الحياة.
ختامًا أبارك لكِ عيدكِ أمي مع دعائي لكِ بالتوفيق وطول العمر وكل عام وأنتِ بألف خير.
المغزى جيد جدا
احسنت تشبيهها بسندريلا
وفقها الله واطال عمرها واعطاها خير ما تستحق
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.