إعتقال
جموع حروب تستقر بحواسنا
الكاتب: الأديب الشاعر
أحمد وهبي
كان ﻻ يكفي اعتقالنا في الواقع،
فتمَّ محاصرتنا بالنفايات السياسية واعتقالات عشوائية... كأنها جموع حروب تستقر بحواسنا،
تتوسل موتنا بصمت، تهوي علينا فنتهاوى وقد أعيا علينا الجفاف، نهوى كأنما احتراقنا،
ربما في خراطيم المياه ونار المقذوفات بأحجامها المتنوعة ما يرمِّم أو يعوِّض عن نقص
في حاجاتنا. وﻻ تعبير لروح... نروح بين المتخيل والمقدس بدندنة اﻷولياء. على رقعة وطن
تقطعت أوصاله حتى صار أناشيد تمجّد الذبح والتذابح، تهوى سردية "الشعب يريد".
غريبٌ أن يكون المرء غريبًا في الوطن، أن نكون في كل فاجعة أكباش العيد على وجه التمام
والكمال. ولوجوهنا، لوجودنا تأويل الغيب بالجملة والمفرّق، فانعدم حس العالم، وتكاسرت
وانكسرت حروب فينا وعلينا، وتدلّت القوافي كساخطين فاعلين ناثرين على "شعور"
من بقوا خارج القطيع.
للحروب ملوحة اﻹنتظار، مرتزقتها
يؤرخون أحداثًا عظيمة، فلا وﻻء لهم... وحوشٌ قبالة البشر، وحوشٌ بين ظهرانينا في دواخلنا،
ونحن اﻹنسان والوحش، تحالف عضوي نخبوي، واﻹيجاز إطلالات خجولة لعلامات تعجب واستفهام.
ﻻ عجب نقتل لمجرد نقاش أدبي، وبالرغم تلاحقنا أفعالنا وفي ذروة اشتعالها من يومئ لقبائل
العصر. فبذلت، قتلت سكوني بجنون ملبد الحيرة، بنشوة ﻻ يسعها اقتتال عبثي بين اﻷخوة
اﻷعداء، بشغف يحاذي هذا اﻹشتعال، هذا اﻹنشغال بما كان في اﻷمس... غداً، بهذا الجسد
يقرأ الرغبات، وليمت الوجود والخلود بمفردات اﻹغريق، وسائر الشعوب والحضارات عوالم
انعدم إحساسها، محكومون كأنما بنص "زومبي" الدﻻلة (أحياء أموات).
أن... واذهب إلى فعل الكتابة،
وليس من قواعد ثابتة، نشيد صروحنا باتزان يختزن التعب والعتب، يثير حدوثه واصطراعه،
يتقاطع والناس بتهويمات يومية وعدم الراحة، بقلق يدفع للموت، للحياة. ثمة قطعة صغيرة
من لحم المعرفة، صورة تحليلية عن استهلاك معرفي، عن غرابات وطنية تنطق عن استذكارات
دامعة بنظريات مختلفة ونظرات.
نصوصنا المبتورة عملية ترويض
لذواتنا الناقصة غير العاقلة. التأمل في الصورة أحيانًا ﻻ يعكس المضمون. لماهية الصورة
تعبيرات وشروح وشروخ جمعية. هاك، أبدو وقت كتابة الحال، ونادلو المحطات يبسطون للحكايات
مناديل التضامن اﻹنساني، والرهبان يمنحون صكوك الغفران لكل شار، ففي الحواف، وعلى الصدور
اكتناز اﻷساطير في كؤوس الوراقين في كأس ما
بين الصبح والمساء عصارة القصيد والروح والريح، تثير تشنّجات أكوام طافحي المراكب المشدودة
لمائها، المشدوهة، في حلكة الليل تمضغ أضغاث حوريات البحر، ومع هذا السحر في هذا الوقت
أحاديث ﻵذان تصيخ، تسترق مثل عيون انبعاث الصوت، ترمز لمشدودين إلى اﻷرض، تقود احتباسها
بمصاصة سماوية التعريف، في هذا التجريف هوام الفضاء، تنبحها كلاب الحوأب... وحين يتبادل
الكلب وصاحبه أدوار المعرفة، ينكسر عراء ما أمام اﻹرتعاش بلا سبب واضح. لها، ﻻرتعاش
الخطو رغبات الماكرين، ولما أزل حافي الخطى، ظلي الممنوح للغابات والغايات، يلاحق أيامي
هناك، يتوق لحماقات كثيرة رائعة، وأنا كالمستريح من ثقلي وتعبي أشاغل النعاس ﻷقطع أكوان
اﻷنفاس، ﻷبصر... فأبصر لحظات دمي وقد شاب أحلامي، يقول... كأنك لم تتعلم ثورتي، وأنا
نبض البكاء والقصص والضوء، دمك أنا... تنهل بي حبر ما تحدث ولك شمس في العتمة، قمر
في خلسة الفجر... تنتظره بحبكة شاعر وقصة، بعرافين ممنوعين من الصرف، وفي هيجاء الغزلان
غزالة الصبح... كما لو تكون مشيئتك، تخلع عنها نمش اﻷنساب البعيدة، لتكون قريب رائحة
موجعة، تتهادل بوجه في جب غريب وشى به أخوته للذئب... فقهقه بزرقاء اليمامة، بخنساء
القرابين وعلى غمازات الحنين عند شباكها رسمت حرفي (حب) ﻻ تقتلهما الحروب.
ما بين اﻹنفجارات نكتب قصصنا،
نكتب عن جثثتا كيف تعبر؟ تسحبنا إلى عطرها في الزواريب والشوارع وعلى الشرفات، على
الجبهات. نقيم مناسكنا ونبتسم، نقسم علينا بشهداء اﻹنفجار اﻷول والثاني والثالث...
واﻷخير ربما. في إحدى زوايا العمر نهرع إلينا، كمن يعيد عليه انفجاره ليزداد يقينا
وتشبثا وقوة، ونقول لجثثنا رجاء لو تسكنوا، لكننا ﻻ نفعل، ندور بيننا بحثا عنا، نبكي،
نتبادل النظرات، نصرخ، ننفجر، ﻻ نصمت، ﻻ نستكين.
بين يومين طويلين أهجس بسنين
عمري، في ذلك الحيّز ما بين الضحايا ورأس وﻻدتي مشوار طويل الشهداء، متاخم لكل الجهات
واﻷرواح، ﻷبهى الناس أولئك الراقدين في الصدور وبين السطور، ليوم ﻻ يقاس بوقت... يحكي
عن عبور المواكب بفخر واعتزاز، بألم ﻻ يوصف.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.