أضوء بحرف الضاد
بين حينٍ وآخر أحايينُ
حبٍّ وغضب
الكاتب: الأديب الشاعر أحمد وهبي
وسط العين، شعوب تسير بدقيق وقت مثلوم مكلوم مدمّى، تحمل انتظارَها لشعوبٍ
على ثغر النطق، يكاد تفجرًا بزهرة أقحوان، بأفواه صغيرةٍ تعلقت بأثداء، تحبو لخلاص
فرداني موحش.
وهذا البعيد، يهزج أمطار القصائد فيها، تدفع اﻷنفاس مدامع القلوب،
وقد علّقها الغاوون على وشوشات الصبح تهجّدًا، والبشر كوشماتٍ لجند وحبق، لتمنيات
مكسورة معلقة على رؤوس اﻷعواد، تسوسها حراب روايات لتظل السردية بأجسادٍ، بدماءٍ
تعصف ﻷجلِ وقعٍ عالي الوجه والهامة، وقد ينهار كسدِ مأربٍ وجدار برلين، كجدر العار
في بلادنا المغتصبة، فنزح بوجوه متعبة، كانت تخرج سرًا ما بين حرف ولغة، ما بين
شهوة وارتقاب، ما بين جموع وضواحي تماثلت بتلك المسميات.
وأنت، لم تعد من يومك، كان يومٌ بين أيامٍ طوال، تتفتح
وإياه مثل شمس تهيم بعسس الليل، والعابرون تقطعوا بلا أوصال، سوى منامات خمرة معتقة،
تبدّت فضائلها بآم المصلين، بآمر الجند، بأمير العباد، برب المال.
وخرج المكان الموحش بأرقام الغرف، بمشاهد غريبة مثيرة،
بلعقٍ لمؤخراتٍ أرقامها سرية، بسرايا جمع دم لسطوع يبهر الشموس.
وأنت، تعلقين المصباح على
عرف الديك، يصيح بالفجر وقد عانق الدجاجات بلل ناعم رقيق.
هزات خفيفة خفيّة تورّمت مخاطفها، فأنبتت ترقوات اﻷقنان
والقينان بشرات تهم، تختلط برائحة دخان ينقر الزجاج، يختلط بعطر ممنوح لصالحي
اﻷعمال. عنهم، أبناء مهزمون يؤرخون صفحات البكاء.
حول ذلك البياض رعاف يقابل هول الضربات، رغبات محاذية
لتماثيل تستقطر المعاصي، فهمى الغبار في لحظة دم بيضاء، ومخادع جسد وجسد تستحيل
ذاكرات شعوبية.
تحت الغابة، نوافذ معلقة، والضاد المقاومة، احتمال غزوات
وغزاة. ثمة روافد روافض لكل غاصب بيد الشاعر، باليد الأخرى نواصب.. والحروف الناصبة،
رافضة جدر العزل، هناك، في عين مهبط الوحي، في اﻹدراك، في النوازل، في السقيا، في
اﻷبعاد اللامكتشفة، خطوات لعشب قديم وعكاز. هناك، المفردات في غاية البساطة
واﻷناقة، هناك، سماء المكان، استرسال ﻷطيار وهوام، ﻷنام معلقين بفصيلة منقرضة.
هناك، المسافر الوحيد يتكاثر بالأمل يشق مﻻمح النحاتين.
وظل على عوده يستمرئ ما حفظ
، "والتين والزيتون".. وهذي الفؤوس والسكاكين، تلبّي تهويمات أبوات وأبواق،
ثمّة ألوان وبوتوكس وإشغال ﻷسواق جديدة، خردة الحروب.. سباياها من كل اللغات، تتملاّها
خطب، أصواتٌ مبقورة بخرافة نص ونص. وتظل استدارة لغوية ما، تثير سحابات سوداء، في
الحياة.. لهذا اﻹبداع، قسوة لم تكن متخيلة.
حين انكسر ظل الشاعر، سمته القصيدة، رثته بما يكون حبوًا
بكلمات، أو يقضي طويلاً يجرّ الحروف بحرف
الضاد.
وأنت، تكتب كي تكتبك اللغات، ترسمك بأنفاس أصدقاء وغرباء،
بحروف جر ونصب وجزم، بأحرف العلة، بالفعل اللازم والمتعدي، بالضمائر المتصلة
والمنفصلة.
وأنت، بأشجار باسقاتٍ، مأدها
مثل أسرة تمنح اﻷوزان روعتها ودهشتها، حريتها، حفيفها كي تخلق بلا أوزار، وقد رمتك
الليالي بأنفاس طفيفة.. محمومة بين عينين.
وأنت، في هدأة الليل، في نوم
الكلمات، تجردها ثياب المعرفة المغرقة التبتلات، تحملها بأنات، بنواة تتعجل الضوء،
تسوقها بفجاءة خفر في ذات، هي، مثل أسماء غادرت، ﻻزمت طويلاً مفرداتها حتى ارتماس
لعيشٍ مبكرٍ بسلاﻻتِ الكلام.
ذات يوم، عن يوم جلس القرفصاء وحيدًا، وكانوا كثيرين في
عتمة اﻻعتقال برغم جموع تتذاكر المآسي.
بين الحين والآخر، نحاتون يباهلون الأصنام، و"مالك بن
نبي" معرفة.. يحسو قراح اﻷفكار والأحوال واجتماع الحواضر، وقد انتصبت بماضٍ
كفيف الحاضر، فهتف ثائر.. مداده البحر والنحر، وإن يئست بلاغة خضم التصفيق الحار،
تبدّى "سيد حجاب" يدبر شعرًا محكيًا، وليس هجرًا للفصحى.. إنما نجوى
لمواقد النار والدفء.
وإن نذهب تحت الجلود، إنما
بنزعة العقول والقلوب، والصدق العميق يردد صدى القيود، فغرائز اﻻنتقام، مهاد
التحشيد لفتوحات المذابح.
كل ذلك المشهد، إخضاع،
استغراق للظلام، ليس غداً.. نكون وننتصر فحسب، فما مضى من عام وألف، وهمٌ وانفصام،
انقسامٌ وأشجان، تقاتلٌ، تناهبٌ لكلمة وقصيدة.
لصدام اﻵن دم حاضر لغد مثقل الهواجس، غدونا في مرمى القهر،
فالغد أمس حاضر وحاضر أمس، وجود.. تهديد جماعي لكل الوجود. بين حين وآخر أحايين حب
وغضب، تفصل المشاعر، تعلن حروبًا وحروب، احتراب مجرد النور والضوء. طوبى لداخلي
الحلم، كي يكون الدم كل هذا الزمن الرعب الصانع ترابط الأجساد.
تقول القصيدة، خذ من دمك مدادا لحروفي، كي تراني على هيئة
طفل يشاغل اﻻلوان، فاﻷقواس النصر.. من ﻻ زال يختبئ في اﻻيام..
تقول، خذ من دنان الشهد والمشهد، إذهب إلى وجهك بلا مرآة..
إلى روحك، فالدروب ركل وقبض، والمقبلون نداب الرقص..
أﻵ خذ عطرًا لجوعٍ وماء، في ذاكرة النار دوران اﻷجساد،
غربة الحواس، تعابير ﻻ تقاس..
إذهب رأسا في رأسك، في دمك وبأسك، في الجنون والهيام، وأنت
إيذان النصوص، ميلاد اﻷسطورة والراوية، تنثر روحًا بأرواح عابرين سائلين نازحين،
بروح مرقاة مهجاة مغناة بغاوين، فدأب التوالد تفتح اﻷقمار، ودأب التصعّد انبجاس
الحياة..
ردّد أصداءَ القصيد واﻷمداء، وانثر من هجسك وبوحك ذياك
الزمن الجميل.. إلى اﻷرض ساروا وثاروا، وتسير طويلاً لانسكاب الحكايا وانبساطها..
للقدر ليس سوى رغبة الحكاية،
لبلوغ يرتع يرجع يلعب بأثواب الحماقات، لشيء من تآلف النزوات.. نذور دم يقطب حاجبي
الفرح والشجن.
تقول، خذ طريقًا بصرف النظر
والتصاريف، واجمع عني أنفاسك وأقاصي الحمم رغبات، واجنح للحرب إن جنح عدوك للسلم،
فسلامه حروب مخبئة ﻷيام أخر.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.