ولأنّكَ ملعونٌ بإنسانيتك
وانت خصيم ذاتك منذ الأزل
الكاتب: الأديب الشاعر أحمد وهبي
...كما
لو تمضي الحياة من حانةِ إلى حانة، وإذا ما حانت اللحظة، تلقفتها بكأسِ علقمٍ، بمحرمةِ
بيضاء، وقد ارتسمت في القلب بحرفين، بوردةٍ حُبِسَت بين الأوراق، فلا تذبل القعدات،
وعند ركنِ المناماتِ تفتح على الليل نجومُ الليلة السابقة، وبعد أزمنةٍ ابيضّت في الرأس،
تُسلِم للظلام دمعتينِ تنسدلان على تلك الملاعب، على الأكوان بزفرةٍ لا تنفك تثير وشائج
المشاوير، وأنت تلملم تلك الخطوات الصغيره بمغرفةِ خشب، بجرعةِ انتسابك لهذه الكلمات،
مكوثًك على سجيتك بسجودِ مشاعرك، بلعنةِ ما لا يُنسى، وقد أبصرتَ في الضباب كلَّ الأمطار،
وما يفكّر فيه الآخرون، وعشتَ الأشواق، وازهقتَ حسوداً وعزولاً، وفقأت مرّاتٍ عيونَ
القهر، وأذللتَ القطرَ لمرآةٍ سكرى عاجلتكَ بالمواعيد، وامطَّ الّلثام عن نار الفؤاد،
ورحتَ احتفاءً لذكرىً بقمرٍ معلُقٍ في الفضاء، بقمرٍ في أصص العمر، بقمرٍ في القلب
يسكب الأصباح برغبةٍ للوجود، بانتظارٍ عند رصيف المساء، تكسر فيه الدنان، وحسبك لليلٍ
ترتقب، لكلمةٍ تحطم فيها هذا الوجودَ بإبداعٍ جنون، العواصفَ في المسام... ولأنّك ملعونٌ
بإنسانيتك، بإنسانٍ بهذا القناع المحبوك بخلْقٍ لا يُعد، بمصائر الخلق، وبحلول الغد،
تُعيد على الألوان فتنتَها ورقّةَ النسمات، كما لو تأنس لهذا الجلْد، ولمّا تزل معلّقاً
في ذاكرة الزّمن حتى زمنٍ لا يكون غير خيارك.
كيفما،
وانتَ تعتلي شجرة الحياة، تشتهي تلك الحماقات البيضاء، ذلك الصفاء الطفولي... مُسمّاك
القديم المعلّق ما بين العتبات الأولى والفضاء. وانت خصيم ذاتك منذ الأزل، تسحب ملاءة
الدّنيا بمسكِ المنازلات، وقد ظننتها مائدة الربّ... تدانيها ببطونٍ غرثى وافواه، وفي
هذا المتاه أقوامٌ يشتهون شمعةً، دمعةً تضيء أرواحاً مترعةً وبعض صلواتٍ منسيّة، وعند
تلاوة الخواطر المكسورة، تمسح بالعنبر على علبٍ فارغة إلّأ من جرعاتٍ مروّضة، وغصّاتٍ
مزينةٍ بأوراق حملتها رياح الخريف على الإعتراف. لكنْ، ومع العمر والخيبات تتدثّر أكثر
فأكثر بالأحلام... وهي آلام الأوّلين والّلاحقين، حلقات الوصل والذكر، وفي أصل الدّمع،
آصلات الشّمس والهمس تعيد للمطارح طالبي اللجوء. وأنت في النذور ترتق فتق الكائنات
بهواك، بتماثلٍ سحيق، وأنت في السرّ والعلن خاتمة الخلاص، وآية الإنسان، كنوزُ نفوسٍ
تصرفُها بكلمة... كما لو جآنٌ من كلّ قمقمٍ مسحور، وحيثما تستحضرها... تنكرها كأنّما
أكياس اللحوم والعظام ليست إلّاك، وقد حبستها في قمم روحك... تعاندها منذ حقبٍ طويلةٍ
في الدّهور، تحنُّ لتلك الملاعب، لعطرها الموشُى، لهذا الطفل فيك لا يهدأ، لا يستكين.
لأسمائنا
صفاتٌ، صِلاتٌ وصفحاتُ الضوء والماء، تُشرقُ بنا بحروف امتحاننا، برغم المِحن تسطع،
تبحث عن معنى توأمها... وتوأمها برغم توهةِ الأرواح على أرضها وفي سمائها. ولا تتخفّفُ
من طعناتٍ حاضرةٍ في الأذهان، في هذا الغول والتغوّل في العمر، والصورة الصغيره تجمع
اسماءَها الكبيرة، يذهب أصحابها بسديم الضباب والبحار والغيوم، واللحظة تنعقد في محاولات
العبور إلى تموضعٍ تعلو فيه الأرقام، ويصير القلق عامود الوقت، والمساحة المتبقيّة
كلّ الجحيم والفيالق، وتلك الفوالق تاريخٌ يرتسم بالدّماء، ومَن حمل أغاني الفرح...
دفعها مرّاتٍ في فوهاتٍ سوداء المطايا، والرصاصات القانصة حوارٌ مُقلقل اللسان، وقد
تبادل العابرون الجثث والرهائن والأسماء، وكشفوا عن المناطق الساخنة لتلك الأطراف المفكّكة،
والضحايا يتخاطفون القُبلَ كي يقولوا أنهم بخير.
في
مطارح الذكريات، أطيافنا، نعودها بكلمات السرّ، فلا تفتح لغير لمساتنا، لأشواقنا لأولادٍ
بيننا... مرايانا المُترعة الشغف والوجوه والأسماء، وتلك الأشياء وبسمات طُبعت في القلوب،
منارات دربنا في الحياة، وإذا ما تلاقينا، عقدتنا المشاعر بوارف ذكرياتنا، وهي من روح
حلمٍ يجمعنا، ولمّا تزل الأيام مشاعلَ مطارحنا، نقيمها بأكف السَحر، بخيوط الضوء...
تغزل اقدارنا، تصادقنا ومحبتنا، انسانيتنا بأرق العبارات. وعند عتبات العمر لمسات لا
تفقد بهجتها، رائحتها الزاكية، تداعبها النظرات من خلف الحجب، الأصوات المتصاديةُ في
الحنين، في الصدور، وتلك الخيالات تسبقنا إليها، تقتعد قُبالتها، والغيث... مدادُ الحواس،
أهزوجة العناصر والأبعاد، رؤى نكتشفها بعين اليقين، صورنا في الوجود... نكبر وإيّاها،
ولا تزل العتبات تستقبل أرواحنا، كأنّأ أطفالها... لا نروح عنها مهما اخذتنا الدّنيا...
مهما لاعبتنا وشاغلتنا. مهما... ولانُكَ ملعونٌ بإنسانيتك... بالأمل، ذلك الكائن المعروش
بحيوات، نتمسك به بإصرار إنساني، بأطياف أرواحنا ومشاعرنا، ولا لنذهب عنه... وعنه كيف
نستمر والأحباء. الطيبون بكل إحساس، كما لو نحمل بعضنا البعض بكل أمل واتزان، بأملٍ
نترقّاهُ... ولا يكون غيرنا، صورنا في الوجود... حياةُ كلٍّ منّا ترتبط بحيواتٍ لا
متناهية خارج هذه الكينونة، نعيشها غداً بخير افعالنا، وما يخالفها، وحياتنا هنا...
نحياها مترابطين بأواصر الروح، بعُرى المودة والتصادق، بالوداد وطيب المشاعر... وهي
فاتحة الحياة تمنحنا قيمة وسلامًا، نعمة وجودنا كي نلتقي.
والموقع ليس مسؤولا عن ذلك.